طوفان العودة- رمز الصمود الفلسطيني وتحدي الهيمنة العالمية ar-BH

المؤلف: فهمي هويدي09.20.2025
طوفان العودة- رمز الصمود الفلسطيني وتحدي الهيمنة العالمية ar-BH

الاندفاعة الجارفة للفلسطينيين المُهجَّرين نحو منازلهم في شمال غزة، والتي وصفت بـ "طوفان العودة"، ما هي إلا تعبير بليغ وعميق المغزى، يستلهم عبارة "الطوفان" التي أُطلقت على عملية السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، ويستحضر في الوقت نفسه كلمة "العودة" التي لطالما كانت وستظل عنوانًا لحلم الفلسطينيين المعلق منذ سبعة وسبعين عامًا، والذي تجاهله البعض الآخر، وأيقظه "طوفان الأقصى" من رقاده العميق. حتى أن البعض رأى في هذا المشهد الزاحف بمثابة تمهيد و"بروفة" للعودة الكبرى التي تحكيها الجدات في الروايات الشفهية عن يافا، وعكا، وحيفا، واللد، والرملة، وعسقلان، وصفد.

لقد كان المشهد آسراً ومفعماً بالدلالات والرسائل القوية؛ إذ لطالما عرفنا على مر سنوات الصراع المريرة أن أعدادًا ليست بالقليلة من الفلسطينيين، ممن كُتبت لهم الحياة، قد هاجروا إلى المنافي البعيدة أو إلى دول الجوار، ولم يعودوا إلى وطنهم إلا لماماً، ولكنها المرة الأولى التي يُهجَّر فيها مئات الآلاف منهم قسرًا، ثم يُفرض على العدو الغاشم أن يعودوا إلى بيوتهم بعد أن دُمرت.

بالإضافة إلى ذلك، تعتبر هذه المرة الأولى في تاريخ الصراع الممتد التي تشن فيها المقاومة الفلسطينية هجومًا واسع النطاق بمبادرة منها ضد إسرائيل فوق الأرض التي اغتصبتها عنوة، وتقصف خلاله بعضًا من مدنها، وتجبر الملايين من سكانها على الاحتماء في المخابئ والملاجئ.

إنها المبادرة الفلسطينية الجريئة التي تخطت الاشتباكات المحدودة السابقة مع العدو على مر سنوات الصراع الطويل. ولا يجدر بنا أن ننسى أننا نتحدث عن المعركة الأخيرة والأكثر أهمية التي خاضها الفلسطينيون بمفردهم دون أي مساعدة أو دعم عربي يذكر، في حين كانت الولايات المتحدة الأمريكية تقف على الدوام في الخندق الإسرائيلي الداعم لها.

*

أثار انتباهي حديث أحد العائدين الذي صرح لمراسل تلفزيوني بأنه فقد كل شيء: زوجته وأولاده الثلاثة وعمله ومنزله ووالده وشقيقته، وكل ما يملك في هذه الدنيا الفانية، إلا أنه متشوق للعودة إلى داره لكي يعثر على رفاتهم ويصلي عليهم صلاة الرحمة، ثم يمضي ما تبقى من عمره فوق أنقاض منزله، وهو يحتضن ترابه الغالي ويتوق إلى إعادة بنائه من جديد.

لقد ذكرني ذلك بما كتبه أحد المعلقين الإسرائيليين في معرض المقارنة بين لهفة الفلسطينيين العارمة للعودة إلى بيوتهم المدمرة، وبين طوابير الإسرائيليين المتزاحمة أمام مكاتب شركات الطيران في سعيهم المحموم لمغادرة إسرائيل والعودة إلى بلدانهم الأصلية بعد مرور شهور طويلة من الحرب الطاحنة. وأشار في هذا السياق إلى أن المقارنة بين هاتين الصورتين المتناقضتين تكشف الحقيقة الساطعة وتجليها، وتظهر الفارق الشاسع بين أصحاب الأرض الحقيقيين، وبين الوافدين الطارئين عليها.

هذا غيض من فيض مما تابعناه وشاهدناه بأم أعيننا في غزة خلال العودة الملفتة التي أدهشت العالم بأسره وفاجأته، كما صدمت الإسرائيليين الذين كانوا ينتظرون بفارغ الصبر تجليات "النصر المطلق" الذي بشر به رئيس وزرائهم، بعد أن وعدهم بالقضاء المبرم والنهائي على حماس، وبالعودة المظفرة للأسرى بقوة الجيش "الذي لا يقهر". ولكنهم صُدموا بالحقائق المؤلمة التي فضحت أكاذيب قيادتهم وتضليلها.

وفي المقابل، تحدث بعض الكتاب والباحثين عن القوة الكامنة الهائلة للشعب الفلسطيني، الذي أثبتت الأحداث الجارية أنه هو الذي لا يقهر بحق. حتى السفير الأمريكي في إسرائيل الذي انتهت ولايته في تل أبيب "جاكوب ج ليو" نشرت له صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" حوارًا وداعيًا حذر فيه إسرائيل من التحولات المستقبلية القادمة، وأنه يجب عليها أن تنتبه إلى أنه خلال العشرين سنة القادمة ستتولى قيادة الولايات المتحدة وبقية دول العالم أجيال لا تعرف شيئاً عن الهولوكوست أو حرب عام 1967، بل تعرف فقط الحرب الحالية على غزة.

أتابع عن كثب حوارًا عبثيًا لا طائل منه يدور حول سيناريوهات النصر والهزيمة. ولا أعرف جدوى هذا الحوار الآن بعد سيل الشهادات المتدفقة التي تملأ وسائل الإعلام الإسرائيلية. وهي الشهادات التي ما فتئت تتساءل مطالبة نتنياهو ومن لف لفه بالإجابة عن سؤال واحد هو: أين هو النصر المطلق المزعوم؟ حتى أن أحد وزرائه ذهب إلى أبعد من ذلك، ووصف المشهد الفلسطيني الراهن بأنه استسلام مطلق.

يحدث كل هذا بعد أن فشل صاحبهم وجيشه المدجج بالسلاح في تحقيق أي هدف استراتيجي واحد تبجح به وهو يستعرض تهديداته الجوفاء بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول. وبالإضافة إلى ذلك، تتضاءل أسئلة الحاسدين والكارهين أمام حقيقة أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو – ووزير دفاعه السابق – باتا مجرمي حرب مطلوبين للمثول أمام المحكمة الجنائية الدولية، في حين أن جيشه ونظامه برمته متهمون بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية البشعة.

لست بصدد الخوض في هذا الجدال العقيم؛ لأن ما جرى على أرض الواقع يطرح أسئلة كبيرة ومهمة للغاية، ويفتح ملفات بالغة الأهمية تستحق المناقشة المعمقة والحسم العاجل. ذلك أننا في معركة الطوفان هذه وجدنا أن الإدارة الأمريكية ومعها بعض الأنظمة الغربية تدعم العدوان الإسرائيلي وتؤيده عسكريًا واقتصاديًا ودبلوماسيًا وبكل ما أوتيت من قوة، كما أنها سعت جاهدة إلى إطالة أمد الحرب في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة؛ لتمكين إسرائيل من إنجاز مهمتها الدنيئة في التدمير الشامل والإبادة الجماعية، حتى بدا لبعضنا أننا بصدد قدر محتوم لا مفر منه، ولا سبيل إلى دفعه أو تغييره.

لقد صدقنا هذه الأكذوبة الكبيرة حتى انحزنا وراء الاحتلال الغاشم، وأصبحت غاية مرادنا أن تتقبل إسرائيل وجودنا الهزيل في ظل ما يسمى زورًا وبهتانًا بحل الدولتين. ومن المفارقات العجيبة أن ما قبلنا به مكرهين ومذلولين يرفضه النظام الإسرائيلي الرسمي رفضًا قاطعًا ومطلقًا. بل إن بعض وزرائه أعلنوا على الملأ وبكل صلافة أنهم يتطلعون في المستقبل القريب إلى إقامة دولة يهودية خالصة تضم في نطاق حدودها ست دول عربية مجاورة.

والأكثر إثارة للدهشة والاستغراب أن هذا الكلام الصادم والمستفز لم يُقابل بأي غضب أو استنكار يُذكر من جانب الدول المشار إليها. والأدهى من ذلك والأمرّ أن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب دخل على الخط بفتوى إسرائيلية خبيثة ماكرة دعا فيها صراحة إلى تهجير جميع فلسطينيي قطاع غزة و"استضافتهم" إلى الأبد في كل من مصر والأردن.

في هذا الصدد، لا مناص من الاعتراف بأن عملية طوفان الأقصى المباركة قد سلطت أضواء كاشفة ساطعة على الكثير مما يجري من حولنا على الأصعدة الفلسطينية والإسرائيلية والعربية والإقليمية والدولية كافة. وقد أتاح لنا ذلك أن نرى بوضوح ما كان خافيًا أو مستورًا على تلك الجبهات المختلفة. وكانت القوة الفلسطينية الكامنة مفاجأة سارة لنا جميعًا.

كما أن مشاعر الاستعلاء والغطرسة الإسرائيلية قد أغرت بعض قياداتها بالجهر والإفصاح عما كان مسكوتًا عنه فيما يخص وجودنا وحقوقنا. إذ تحدثوا علنًا وبلا خجل عن ضم الضفة الغربية المحتلة، التي نهبوها وسرقوها، لصالح المستوطنين، بحيث تصبح جزءًا لا يتجزأ من دولتهم المزعومة على غرار الجولان السوري المحتل، وعن أرض إسرائيل التي سكنها اللبنانيون وغيرهم من العرب، إلى غير ذلك من المعتقدات الخاطئة والمغلوطة التي تربى عليها أجيال الإسرائيليين الصغار بأن العرب هم الوافدون الطارئون الذين سكنوا أرض إسرائيل.

*

مشكلتنا الأساسية ليست مع الغلاة المتطرفين الذين يروجون للخرافات والأباطيل ويتشبثون بالأساطير الواهية؛ لتبرير الاحتلال البغيض والتوسع فيه. ولكنها تكمن بالدرجة الأولى مع العقلاء الذين لم يدركوا بعد أن عالم ما بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول قد اختلف جذريًا وتغير كليًا عن العالم الذي سبقه، وأن ثمة متغيرات جوهرية ملموسة قد لاحت بوادرها في العالم الجديد. وبالنسبة لإسرائيل التي أجبرتنا على تحمل نصيب وافر من تلك المتغيرات، توجد مؤشرات عديدة دالة على ذلك؛ كتحولها إلى دولة منبوذة من المجتمع الدولي، وتدينها العدالة الدولية، وتلاحقها أسوأ التهم التي عرفتها البشرية جمعاء، وهي الإبادة الجماعية للفلسطينيين العزل.

كما أن كبار مسؤوليها وقادتها وجنودها باتوا معرضين للملاحقة والاعتقال في العديد من دول العالم بتهمة ارتكاب جرائم حرب شنيعة، وهو الأمر الذي أدركته السلطات الإسرائيلية مؤخرًا، وبدأت في اتخاذ إجراءات جادة لتحذيرهم من ذلك الاحتمال الوارد.

لم نتحدث بالتفصيل عن التفاعلات الجارية داخل إسرائيل بعد وقف إطلاق النار على الرغم من الضجة المثارة حولها، ولكننا لسنا بحاجة إلى مزيد من الأدلة والبراهين القاطعة لكي نقرر بكل ثقة ويقين أنها في عالم ما بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول قد أصبحت دولة سيئة السمعة ومكروهة حتى بين أنصارها الذين أيدوها ودعموها طوال الوقت، حتى إن وحشيتها وهمجيتها قد فاقت في بعض الأحيان أداء النظام النازي الذي يُضرب به المثل في انتهاك حقوق الإنسان وإذلال البشر وإهدار كرامتهم، خاصة بعدما شاهدها الجميع رأي العين على شاشات التلفزة وفي وسائل الإعلام المختلفة.

تتعدد المعاني والدلالات والرموز التي تثيرها العودة المهيبة والحاشدة للمهجرين إلى بيوتهم وأراضيهم في شمال غزة، ومن بينها ما يتجاوز أشواق العودة وأحلامها المشروعة على الرغم من أهميتها البالغة. ذلك أن بعض هذه المعاني يتعلق بدور الأشقاء العرب في عملية تعمير قطاع غزة وإعادة بنائه بعد أن دعا الرئيس الأمريكي إلى ضخ ملياراتهم في تعمير ولاية كاليفورنيا الأمريكية بعد الحرائق المدمرة التي اجتاحتها مؤخرًا.

والأبعد غورًا والأكثر أهمية وخطورة من ذلك هو أن اليقظة الفلسطينية الكبرى التي تجسدت في طوفان الأقصى المبارك قد اعتبرها البعض مصدر إلهام للتحولات الجذرية في عالم ما بعدها في الإقدام والجسارة على تحدي طواغيت قوى الهيمنة والظلم والاستبداد في العالم أجمع.

وهو ما يسوغ لبعض المحللين أن يربطوا بشكل وثيق ومباشر بين التداعيات والنتائج المترتبة على أحداث السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، وبين إسقاط نظام الأسد المستبد في سوريا بكل جبروته وسلطانه، وهي ذات الجسارة والشجاعة التي شجعت دولة جنوب أفريقيا على تحدي إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، وأجبرت المحكمة الجنائية الدولية على إصدار مذكرات توقيف واعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير دفاعها – على الرغم من الضغوطات والتهديدات الدولية الهائلة التي مورست على المحكمة.

وهي ذاتها التي شجعت ثماني دول من دول الجنوب على تشكيل مجموعة دولية قانونية متخصصة تهدف إلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي الغاشم لفلسطين، هذا بالإضافة إلى غير ذلك الكثير من التحركات والجهود التي تعلن التمرد الصريح على طغيان الدول الكبرى التي استأثرت بالقرار الدولي الأوحد والسيادة المطلقة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية في أربعينيات القرن الماضي.

*

من هذه الزاوية تحديدًا يمكننا القول وبكل ثقة إن طوفان الأقصى لم يكن مجرد إطلاق للعنان للقوة الكامنة للوطنية الفلسطينية في مواجهة التغول الإسرائيلي المتزايد فحسب، ولكنه تحول إلى علامة تاريخية فارقة تدل دلالة واضحة على قدرة المستضعفين والمقهورين على تحدي قوى الطغيان والاستكبار والغطرسة في العالم.

وربما سجلت الثورة الإسلامية في إيران نقطة مضيئة في هذا الملف قبل نحو نصف قرن من الزمان، حين انطلقت بأهداف واضحة تضمنت تحدي الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة، ولكن الظروف الإقليمية والجغرافية المعقدة لم تتحْ لهذه التجربة أن تنضج وتؤتي ثمارها المرجوة في ذلك الوقت لأسباب يطول شرحها وتفصيلها وتحتاج إلى دراسة منفصلة معمقة داخلية وخارجية خاصة.

ثمة حقيقة مهمة وجوهرية ينبغي أن نستخلصها ونتعلمها جيدًا مما نشاهده ونعاصره في هذا العالم الجديد المتغير، وهي أننا بصدد ظرف تاريخي استثنائي له شواهده القوية والبراهين الدامغة، وهو ظرف جاهز لإطلاق طاقات التمرد والرفض القاطع للمخططات الخبيثة التي تسعى جاهدة إلى تشكيل نظام عالمي جديد، وذلك بعدما انكشفت عورات نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية الذي ظل صامتًا ومنحازًا بشكل سافر إلى جانب قوى الاحتلال والإبادة والظلم.

وفيما يخصنا على الأقل، فمن حقنا الكامل والمشروع أن نرفض ونقاوم بكل السبل المتاحة سياسة التهجير القسري وسياسة ضم الضفة الغربية المحتلة، بل وأن نرفض أيضًا حل الدولتين المشبوه الذي يروج له البعض، في حين يرفضه الكنيست واليمين الإسرائيلي المتطرف المدعوم شعبيًا. علمًا بأننا لسنا مضطرين للتنازل عن أي جزء من أرضنا المقدسة لصالح غرباء مغامرين قادمين من بولندا وشيكاغو وغيرها.

لم يعد لدينا أي خيار آخر سوى استيعاب المستجدات والتطورات المتسارعة في عالم ما بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، خاصة بعد أن نجحت المقاومة الفلسطينية الباسلة في إبطال مشروع احتلال شمال قطاع غزة الذي تصور الجميع، بحكم مسلمات واقع الصراع المرير منذ عام 1948، أنه قد سُلب منا أيضًا وإلى الأبد.

تتجاوز أهمية عودة النازحين الفلسطينيين إلى الشمال رمزية العودة في حد ذاتها. فهي ترسخ حقيقة أخرى جديدة علينا نحن كعرب وفلسطينيين، وهي أنه بالإمكان عرقلة الإرادة الإسرائيلية المتغطرسة وإفشال مخططاتها الخبيثة، بل وهزيمتها أيضًا.

إنه إدراك حديث العهد لدينا في معناه ورسالته الشديدة الأهمية في الوعي الجمعي العربي، وأنه بالإمكان، فعلًا وليس مجرد حُلم وردي، (على الرغم من الثمن الفادح والتضحيات الجسام) وقف هذا الواقع الإسرائيلي المرير الذي يستهدف احتلال الأرض وإبادة الشعب، وإجهاض المخططات الرامية إلى إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط من جديد على مقاس توازن قوى عالم ما قبل طوفان الأقصى.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة